وسط صمت عربي ذليل... تم إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين أول أيام عيد الاضحى المبارك
صدام حسين نال شعبية وشرعية جارفة خارج حدود بلاده العراق، وأصبح يمثل لدى الكثيرين من العرب رمزاً للرفض وتجربة لنموذج مشروع الاستقلال والنهضة والتخلص من التبعية، حتى إن بعض مثقفي العرب وضعه في صف محمد علي باشا وجمال عبد الناصر، آخذين بعين الاعتبار تطلعات صدام وممارساته على الأرض في حقبة الثمانينيات، كما شكلت مواقف صدام المتحدية لإسرائيل وأميركا مرتعاً خصباً لزيادة شعبيته وشرعيته خارج حدود العراق الدولة.
وفي الداخل العراقي، ظهر الوجه الآخر لصدام حسين، فالرجل مارس سلوكاً سياسياً أحادياً وشمولياً، وفقد صدام بممارسته الشمولية وأدائه العمودي في ممارسة السلطة، شرعيته السياسية عند أغلبية التكوينات العراقية من شيعة وأكراد وبعض السنة، وأصبح صدام مرفوضا من قبل العراقيين، وهنا تجيء قراءة طبيعة التكوين الاجتماعي العراقي المعقد، وميول هذا التكوين نحو الخارج في حالة الشيعة، ونحو النزوع للانفصال في حالة الأكراد، هذا التكوين جعل سلوكيات صدام محل اتهام ورفض، بمعنى أن العراق بتكوينه المتشابك لم يكن على قدر حمل تطلعات صدام وحزبه، مما جعلها أقرب للمغامرات وبعيدة عن المشروع النهضوي.
أداء صدام السياسي، وسياسته الخارجية، وطموحاته النهضوية، كانت محصلة منطقية لضرورة إنهاء هذا المشروع وتلك الرؤية العراقية الصدامية، فقد ارتكب الرجل أخطاء سياسية كبرى، مهدت وهيئت الفرصة لتحالف غربي وعربي وعراقي داخلي لإسقاط نظام صدام حسين، بل كانت هناك نوايا وميول لإسقاط العراق وتفكيكه وإعادة صياغة هويته ومشروعه وانحيازاته، مما دفع الأمة العربية نحو واقع متفسخ متآكل، وليصب الأمر في مصلحة إيران وإسرائيل على السواء.
توالت الأحداث مسرعة، وبسلبية عربية مقيتة، وتحت سطوة التآمر العربي الرسمي على العراق، سقطت بغداد، وظهرت مشاريع سلخ العراق عن أمته، وتم الحديث عن تقسيمه ووضعه على طاولة مصالح إيران وأميركا، وصمتت القاهرة والرياض، وتلاشت دمشق في غياهب فوضاها السياسية، وتآمر آخرون على الأمة بوعي وغير وعي، وظهرت المقاومة العراقية بغير عمق ورؤية، واختلطت الأوراق وتحقق مفهوم الفوضى الخلافة، لكنها هذه المرة بأجندة مشتركة إيرانية أميركية.
صدام حسين، يتحمل مسؤولية ما جرى للعراق، بدءاً من فهمه لطبيعة إمكانية أن يكون العراق مؤهلاً لمشروعه المتطلع، ومروراً بحروبه فاقدة الرؤية، وانتهاء بعجزه عن توحيد العراقيين تحت لواء المواطنة والعدالة وغيرها، ورغم ذلك فقد دفع الرجل الثمن، وجاء يوم إعدام صدام حسين، وحملت لحظة إعدامه دلالات متداخلة، اختلط فيها السياسي بالأيدلوجي، والوجداني بالعقلاني، والهمة بالإرهاق، والصامد الرافض بالمسالم المستسلم، وظهر التوحد والانقسام في ذات اللحظة، والمتفائل الواثق بنفسه بالمتشائم المتدني المعنويات، كما اختلط الحزن بالفرح، وحمل البعض عن نفسه صورة سلبية، لقد أعادت لحظة إعدام صدام حسين تساؤلات كبيرة عن حال الأمة وموقفها من الحياة والموت.
إعدام صدام حسين، مثَل رسالة شديدة اللهجة وعميقة المضمون، موجهة من الشيعة إلى السنة، فشيعة العراق يعتبرون السنة هم صدام، وأن الفتك بهم يمثل انتقاماً من صدام، وهنا تجيء الرسالة، حيث أراد الشيعة، من المالكي إلى الصدر والحكيم، أن يقولوا للسنة، تذكروا فوارق وموازين القوى في هذه اللحظة، وأن أمامكم أحد خيارين، إما الموت والدم، وإما الانصياع والرضا بالتبعية السياسية والثقافية للشيعة ولطهران.
كما أراد الشيعة في هذه اللحظة التاريخية من عمر العراق، أن يعلنوا حجم قوتهم ونفوذهم في مواجهة القوات والإدارة الأميركية، فالإرادة التي اتجهت نحو إعدام صدام، هي إرادة شيعية ضاغطة على الولايات المتحدة، للقضاء على واحد من الملفات، التي ابتز بها الأمريكان الشيعة، وكانت العصا التي لوح بها الأمريكان، مهددين بإعادة إنتاج صدام في العراق ليكون مثار تسوية وابتزاز للشيعة، وما تصريح المالكي بأن إعدام صدام هو إعلان عن تخلي أميركا عن إعادة الدكتاتورية للعراق إلا تأكيد لهذا الذي قلناه.
لقد كان إعدام صدام حسين، إشارة كبرى، نحو تسوية يدور رحاها تحت الطاولة، فإعدام صدام مؤشر على بداية حوارات وتنازلات ومقاربات إيرانية أميركية، فالموافقة الأميركية على إنهاء ملف صدام حسين، له من الدلالة ما يؤشر على أن الأمريكان بدءوا رحلتهم الجديدة في إستراتيجية إنهاء ملف العراق، وهنا يأتي إعدام صدام ضمن سياقات هذه الإستراتيجية، فالورقة حان استخدامها لبدء التقارب الإيراني نحو الملفات برمتها، مما يؤشر على استسلام أميركي للمشروع الإيراني في العراق، ربما مقابل تنازلات إيرانية نووية.
ويرى البعض -وفي ذلك وجاهة- أن إعدام صدام حسين، يؤشر على واحدة من اثنتين، إما أن صدام مارس رفضاً لسماع الأمريكان، وأنه بقي واقفاً حتى لحظة إعدامه، رافضاً للتسوية على حساب المقاومة، فجال بخاطرهم إغلاق ملفه، وإما أن الأمريكان كشفوا حقيقة دوره الوهمي في المقاومة، وأن تأثيره ضيق المدى على حجم العنف الدائر في العراق، لاسيما أن معظم هوية المقاومة باتت إسلامية الميول والنزعة، وأن قيادات عراقية جديدة بدأت تنظر لمستقبل العراق بلغة مختلفة.
على المستوى الإنساني، مارس صدام حسين منذ زمن بعيد كاريزمية ذكية، سرقت ألباب الكثيرين من العرب، وشكلت لحظة إعدامه جرحاً دامياً في قلوب الكثيرين، وهذا أمرٌ لا يمكن إنكاره، فالغالبية العظمى من سواد الأمة، صعقه الخبر، وفاجأته الواقعة، وعبر العرب عن ذلك بعفوية واضحة، ولعل أسباب ذلك كما أسلفت سابقاً، أن صدام يملك شرعية ومكانه في قلوب الناس، وهي يمتلك في خواطرهم لحظة ورعشة اعتزاز مارسها بذكاء كبير، هذا الذكاء الذي خانه في سياسته الخارجية، فأورد الحالة العربية مهالك كبيرة، ولكنه شكل في الوجدان العربي لحظة صمود لذيذة الاستشعار.
صدام حسين في لغة الفرسان، فارسٌ كبير، لا يخشى المواجهة والموت، وقد بلغ من النرجسية حداً لا يوصف، ولكن الفرسان يحتاجون دائماً للظروف والحكمة والحنكة، وهي التي في بعض اللحظات السياسية من حياة صدام قد خانته، فدخل الكويت على غير هدى، مما جعله مبرراً لاستحقاقات كان العراق أقل قدرة من تحملها بفعل تكويناته وتركيبته وموقعه وجيرانه.
في لحظة إعدام صدام، آن للعرب أن يعلموا أن طريقهم للحرية شائكة، وأن عواطفهم متناقضة، وأنهم يعيشون مرحلة تخلف انتقالي،